في لحظة يأس، ولّدها خمس سنوات من الآلام المجهولة، لجأ شاب إلى الذكاء الاصطناعي لا بحثًا عن معلومة، بل كفرصة أخيرة لفهم ما استعصى على الأطباء، لم يكن يتوقع أن يحل روبوت دردشة مشكلته المزمنة في أقل من دقيقة، لكن ما حدث كان كافيًا ليشعل جدلًا واسعًا في وادي السيليكون.
بدأت القصة بمنشور على منصة "ريديت"، يسرد فيها المستخدم معاناته مع ألم متكرر في الفك، وصوت طقطقة لا يفارقه، أرهقه الأطباء بتحليلات غامضة وفحوص مكلفة، دون نتيجة حاسمة، ظل التشخيص معلقًا بين الاحتمالات، ومرّت السنوات بثقلها، حتى قرر أن يجرّب أداة ذكاء اصطناعي.
إقرأ ايضاً:خبير نفسي يشرح أسباب اكتئاب ما بعد التخرج ويقترح العلاجأسمنت السعودية تعلن توزيع 153 مليون ريال أرباحًا نقدية للنصف الأول من 2025
ما إن وصف حالته لـ"تشات جي بي تي"، حتى جاءه الرد سريعًا وبتفصيل مثير للدهشة، أخبره النموذج أن لديه حالة يُحتمل أن يكون فيها قرص الفك مائلًا بشكل طفيف، لكنه ما زال يتحرك، واقترح عليه تمرينًا بسيطًا، بدا أقرب إلى حركة فكيّة خفيفة أكثر من كونه علاجًا طبيًا.
نفّذ التمرين دون كثير من التوقعات، لكنه فوجئ أن صوت الطقطقة توقف، كأن المشكلة لم تكن يومًا قائمة، في أقل من 60 ثانية، انتهت معاناة سنوات، وتحوّلت تجربة شخصية إلى حدث عالمي يتداوله رواد الإنترنت، ويتأمله الخبراء.
القصة التقطتها مجلة "فاست كومباني"، لتغدو مادة مثيرة للنقاش حول دور الذكاء الاصطناعي في المساعدة الذاتية، ولم يلبث رجال وادي السيليكون أن سارعوا إلى التعليق، ومن بينهم ريد هوفمان، مؤسس "لينكدإن"، الذي اعتبرها لحظة كشف عن "قوة خارقة" يحملها هذا النوع من التكنولوجيا.
هوفمان لم يراها مصادفة، بل تجلٍّ لتحوّل جذري في قدرة الذكاء الاصطناعي على اجتياز حدود المعرفة النظرية، وتقديم تدخلات حقيقية في الحياة اليومية، في نظره، هذه ليست تجربة فردية، بل بداية لعصر جديد من التمكين الشخصي المدفوع بالخوارزميات الذكية.
وانتشر الأثر سريعًا، إذ توافد مستخدمون كثر يشتكون من أعراض مشابهة، وشاركوا أن نصائح "تشات جي بي تي" ساعدتهم في تحسين حالتهم، لم تعد القصة عن رجل واحد، بل عن آلاف وجدوا أن الإجابة التي فشل فيها البشر، قدّمها لهم برنامج إلكتروني.
هذه الواقعة سلطت الضوء على تحوّل "تشات جي بي تي" من أداة دردشة إلى مستشار حقيقي، لم يعد مستخدموه يتوجهون إليه بأسئلة عابرة، بل بقضايا تمس الصحة، والعلاقات، والمصير الشخصي، حالة الفك كانت الشرارة التي فجّرت نقاشًا أعمق حول حدود وأخلاقيات هذا الاعتماد.
سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، علّق بدوره على الظاهرة، مشيرًا إلى وجود فجوة جيلية في استخدام التقنية، كبار السن يرونه موسوعة، في حين يستخدمه الشباب كمرافق حياة، يستشيرونه في الدراسة، والحب، والعمل، وحتى في خياراتهم النفسية.
ويذهب ألتمان أبعد من ذلك حين يرى أن الذكاء الاصطناعي قادر على أن يفهم "السياق الكامل" للمستخدم، فيجمع بين ما قاله بالأمس، وما يعانيه اليوم، ليبني نصيحة تتجاوز الظاهر إلى الأعماق، ما يجعل من هذه النماذج مستشارًا شبه بشري، لا يحكم، ولا يمل، ولا يغيب.
لكن السؤال الذي لم يجد بعدُ إجابته الكاملة هو: ماذا يحدث إن أخطأ الذكاء الاصطناعي؟ هل يُحاسب؟ وهل يحق له أن يلعب دور الطبيب؟ الجدل لا يدور فقط حول النتيجة، بل حول الجهة التي تتحمّل المسؤولية في حال حدث خلل أو سوء فهم.
في موازاة الحماس، هناك من يرى أن نجاح هذه الحالات يجب أن يكون دعوة للبحث والتطوير، لا للاعتماد الأعمى، الذكاء الاصطناعي ما زال يتعلم، والقصص الإيجابية لا تلغي الحاجة لضوابط، تضمن أن يبقى دوره داعمًا لا بديلاً.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار حقيقة أن "تشات جي بي تي" غيّر النظرة النمطية تجاه ما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي، صار جزءًا من القرارات اليومية للبشر، يوجههم بلغة بسيطة، لكنه مدعوم بقدرات تحليلية معقدة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الصحة، حتى وقت قريب، حكرًا على الأطباء، تبدو التكنولوجيا في طريقها لإعادة رسم حدود المسؤولية والمعرفة، وربما، حين نحتاج إلى إجابة في المستقبل، لن نتصل بطبيب أولًا، بل سنفتح نافذة دردشة.