قيم إنسانية

"لأن الفرح أمانة.. رجل يعفو عن قاتل حفيده ويؤجل حزنه كي لا يفسد بهجة العرس"

كتب بواسطة: حكيم حميد |

في لحظة من أشد لحظات الفقد قسوة، وبين جموع مفعمة بالفرح والاحتفال، اختار رجل من شمال السعودية أن يتجرّع الألم بصمت، فقط كي لا يُفسد بهجة من حوله، مخلف الرطان الشريفي الشمري، من محافظة رفحاء، لم يكن مجرد جدٍّ مكلوم، بل كان تجسيدًا حيًّا للفروسية والمروءة في أرقى صوره.

تفاصيل القصة بدأت في مناسبة زفاف عائلية، احتشد فيها الأقارب والأحباب، وأضاءت فيها الأجواء بالأهازيج والأنوار، غير أن المشهد تغيّر تمامًا عند إحدى بوابات الحفل، حين وقع حادث دهس مؤلم لطفل لم يتجاوز عمره الست سنوات.
إقرأ ايضاً:وهم العلاجات الطبيعي.. طبيب قلب يحذر من استخدام خل التفاح يوميًا انتبه لهذه المخاطر!خبير نفسي يشرح أسباب اكتئاب ما بعد التخرج ويقترح العلاج

نُقل الطفل بسرعة إلى المستشفى، في محاولة لإنقاذه، لكن القدر كان أسرع، ففارق الحياة متأثرًا بإصاباته، الخبر المؤلم وصل إلى جده، الذي لم يكن مجرد شاهد على المصاب، بل كان أول من حمل الألم في قلبه، ومع ذلك، اتخذ قرارًا لا يُتخذ إلا في لحظة نادرة من التسامي الإنساني.

فور علمه بالوفاة، بادر الشريفي إلى العفو عن الشاب الذي تسبب في الحادث، مدركًا أن ما حدث كان قضاءً وقدرًا، وأن لا شيء سيُعيد الطفل، لكنه قرر أيضًا ألا يحمّل الشاب تبعات الحادث في ليلة قد تُدمّر مستقبله.

ولم يكتفِ بالعفو، بل آثر أن يُخفي الخبر عن ذويه وجماعته طوال الليل، كي لا تتحوّل ليلة الفرح إلى مأتم، وكي لا يختلط الفقد بزغاريد الفرح، فأبقى حزنه داخله، وحبس دمعه عن العلن، ليظل الجميع في بهجتهم حتى آخر لحظة من الحفل.

مرت ساعات الحفل ثقيلة على قلب الجد، لكنها كانت خفيفة على كل من حوله، الذين لم يعرفوا ما يجري خلف الكواليس، ولم يُكشف الستار عن الحقيقة إلا بعد انتهاء مراسم الفرح، حين أخبر الشريفي الحاضرين بوفاة حفيده، ودعاهم للصلاة عليه في اليوم التالي.

أذهل هذا التصرف كثيرين، وتحوّل إلى حديث المجالس في رفحاء وخارجها، حيث تساءل الناس عن هذا النوع من الصبر، وعن هذه القدرة العجيبة على تغليب مشاعر الآخرين على حرقة القلب الشخصي.

من عرفوا الشريفي عن قرب، لم يُفاجأوا بالكامل، فهو رجل عُرف بالشجاعة والمروءة، لكنه في هذه المرة ارتقى إلى مرتبة أسمى من التوقع، وترك موقفًا يُروى كما تُروى بطولات الأجداد في السير الشعبية.

لم يكن العفو فقط عن المتسبب بالحادث هو ما أثار الإعجاب، بل هذا التجلّد غير العادي، والهدوء في إدارة اللحظة، والوعي بأن الفرح الجماعي أمانة لا ينبغي أن تُكدرها مأساة حتى لو كانت خاصة.

وفي مجتمع يعلي من قيم النخوة والستر والصفح، جاء موقف الشريفي ليُعيد التذكير بأن هذه القيم ليست ماضٍ يُحكى، بل حكاية تُعاش، وبأن البطولة أحيانًا لا تحتاج إلى سلاح، بل إلى صبر وكرامة وأخلاق لا تُشترى.

حتى الذين لا يعرفونه شخصيًا، وجدوا في قصته درسًا إنسانيًا نادرًا، فكيف لرجل أن يخفي ألمًا بهذا الحجم، ويؤجّل حزنه لساعات فقط كي يحمي من حوله من غصة لن تُمحى بسهولة؟

أصبح الشريفي رمزًا للصبر النبيل، وعنوانًا لصفح يعلو فوق الغضب، في زمن قد تُشعل فيه لحظة انفعال خلافات لا تنتهي، بينما هو أطفأ نارًا قبل أن تبدأ، وأدار مشهدًا بأكمله بنبل لا يُوصف.

ربما لن يدرك كثيرون معنى أن تُفقد حفيدك بين أقدام الفرح، لكن سيبقى موقف هذا الجد مثالًا خالدًا على أن القوة الحقيقية لا تُقاس بالعنف، بل بالقدرة على الاحتمال، والعفو عند المقدرة، والكرامة وسط الجراح.

الأكثر قراءة
آخر الاخبار