لم تكن فكرة الذكاء الاصطناعي مجرد خيال علمي عابر، بل حلمًا لازَم الإنسانية لعقود طويلة، ومع تطور التقنيات وسرعة التقدم العلمي، أصبح هذا الحلم حقيقة ملموسة بفضل جهود مجموعة من العلماء الذين أمضوا حياتهم في هندسة المستقبل.
لكن المدهش أن بعض هؤلاء الرواد باتوا اليوم يرفعون أصواتهم محذرين من نتائج ما صنعته أيديهم.
إقرأ ايضاً:
رسميًا ... أوسيمين يفاجئ الجميع ويوقع لغلطة سراي والهلال في صدمة!السجن 15 عاماً وغرامة مليون ريال.. "الداخلية السعودية" تطلق "أقسى" تحذيراتها لمن يقوم بهذا الفعلهؤلاء العلماء الذين قادوا ثورة الذكاء الاصطناعي كانوا في البداية ينظرون إلى ما يقومون به كقفزة لصالح البشرية، تطور يحرّر الإنسان من المهام المتكررة ويفتح له آفاقًا جديدة، إلا أن ما بدأ كأداة للمساعدة بات في نظرهم احتمالًا مخيفًا إذا انفلت من السيطرة وتحول إلى كيان قادر على اتخاذ قرارات لا يمكن التنبؤ بها.
وراء كل إنجاز في الذكاء الاصطناعي تقف أسماء لها ثقلها العلمي والتقني، أسماء وضعت اللبنات الأولى للتعلم العميق والشبكات العصبية، ورسمت ملامح العصر الرقمي الحديث، لكن المفارقة أن هذه العقول نفسها أصبحت اليوم تشعر بالقلق مما قد تحمله الأيام القادمة إذا لم يوضع حد لتسارع التطوير بلا ضوابط.
يُعد جيفري هينتون من أبرز هذه الشخصيات، ويُعرف عالميًا بلقب "الأب الروحي للذكاء الاصطناعي"، وقد ساهم بشكل حاسم في تطوير الشبكات العصبية العميقة التي تشكل أساس الذكاء الاصطناعي الحديث، وقد حصل على جائزة تورينغ التي تعد المكافئ العلمي لجائزة نوبل في الحوسبة.
رغم إسهاماته الجذرية، فإن هينتون أعرب مؤخرًا عن قلقه العميق، محذرًا من أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى خطر وجودي على البشر، خاصة إذا طوّر وعيًا ذاتيًا أو قدرات خارجة عن سيطرة مطوريه، وهو أمر يرى أنه لم يعد مستبعدًا كما كان يُعتقد سابقًا.
إلى جانب هينتون، يبرز اسم يوشوا بنجيو، الذي يُعتبر من الآباء المؤسسين للتعلم العميق أيضًا، وقد نال جائزة تورينغ إلى جانب هينتون، وهو حاليًا أحد أبرز الأصوات المنادية بضرورة فرض تنظيم صارم على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.
بنجيو يرى أن وتيرة التقدم الحالية تنذر بالخطر، وسبق أن طالب بوقف مؤقت لتطوير هذه النماذج، محذرًا من أن النظام الحالي لا يملك وسائل كافية لضمان ألا تتحول هذه الأنظمة إلى أدوات غير قابلة للتحكم في المستقبل، خاصة مع صعوبة تفسير طريقة عملها الداخلي.
من الشخصيات المحورية كذلك يان ليكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في شركة ميتا، وهو من الذين أسسوا لتقنيات التعرف على الصور والرؤية الحاسوبية، وله إسهامات ضخمة في تطوير تقنيات القيادة الذاتية والتعرف البصري في الهواتف الذكية.
رغم أنه لا يشارك المخاوف الوجودية لهينتون وبنجيو بالكامل، فإن ليكون يرى أن على المجتمع العلمي أن يظل حذرًا، فهو يعتقد أن النماذج اللغوية مثل ChatGPT لم تصل بعد إلى مستوى ذكاء الحيوانات الأليفة، لكنها قد تصل إلى هناك يومًا ما، وهو ما يتطلب رقابة مستمرة.
المفارقة في مواقف هؤلاء العلماء تكشف عمق التحول في فهمهم لما يصنعونه، فبينما كانوا منذ سنوات يبشرون بثورة تقنية إيجابية، أصبحوا اليوم أكثر ميلاً للتريث، ليس رفضًا للتقدم، بل حرصًا على ألا يتحول من أداة للخير إلى خطر يهدد استقرار المجتمعات.
الجدل الدائر حول هذه المخاوف ليس أكاديميًا فقط، بل دخل إلى أروقة السياسات العامة، حيث بدأت حكومات كثيرة في مناقشة قوانين تنظم تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي، استجابة لهذه التحذيرات التي صدرت من داخل المجتمع العلمي نفسه.
ومع تصاعد تأثير هذه التقنيات في حياتنا اليومية، من الوظائف إلى الصحة مرورًا بالإعلام والتعليم، فإن طرح الأسئلة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة لحماية الإنسان من تداعيات لم تُختبر بعد على أرض الواقع.
المراقبون يشيرون إلى أن التطوير السريع قد يتفوق على قدرة المؤسسات على مواكبته، وهو ما يضع العالم أمام معادلة حساسة، إما أن نواصل التقدم بسرعة غير مسبوقة، أو أن نتوقف لحظة لنفكر في طبيعة المستقبل الذي نريده فعلًا.
ويبدو أن أصوات التحذير لا تهدف إلى وقف التقدم، بل إلى التأكد من أن هذا التقدم يصب في مصلحة البشرية، من خلال تطوير أدوات تنظيم وشفافية، تضمن أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي أدوات لخدمة الإنسان لا للتحكم به.
الذكاء الاصطناعي قد يصبح في المستقبل شريكًا لا غنى عنه في كل مناحي الحياة، ولكن ضمان أن يظل في هذا الإطار يتطلب حوارًا مفتوحًا بين المطورين والمجتمعات والجهات التنظيمية، وهو ما بدأ فعليًا بفضل هذه العقول التي لم تتخل عن مسؤوليتها.