يشهد المجال الطبي تطورًا لافتًا بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تواصل التقدّم بسرعة مذهلة، وفي هذا السياق، نجح فريق بحثي من معهد السرطان الهولندي بالتعاون مع شركة Robovision Healthcare في تطوير نموذج ذكاء اصطناعي قادر على اكتشاف أورام دماغية دقيقة غالبًا ما تتجاوزها أجهزة التصوير التقليدية.
هذا النموذج الجديد يحمل اسم BrainMets.ai وتمكّن من رصد نوع معين من الأورام يُعرف بالنقائل الدماغية، وهي أورام تنتج عن انتقال السرطان من أعضاء أخرى في الجسم إلى الدماغ، ويُعد هذا النوع الأكثر شيوعًا ضمن أورام الجهاز العصبي المركزي، ويصيب نحو 17% من مرضى السرطان من البالغين.
إقرأ ايضاً:
السعودية: ضبط اكثر من 30 مخالفاً في الفحص الدوري بسبب هذه المخالفات"لأول مرة خارج البرتغال".. هونج كونج تعلن افتتاح متحف "CR7"وتكمن خطورة هذا النوع من الأورام في صغر حجمها وسرعة نموها، ما يجعل اكتشافها مبكرًا أمرًا بالغ الصعوبة، إذ أن كثيرًا من هذه النقائل لا يتجاوز قطرها 3 ملم، وهو ما يضع تحديات كبيرة أمام دقة التصوير بالرنين المغناطيسي الذي لا يتمكن دائمًا من إبراز تفاصيل دقيقة لمثل هذه الأورام.
في دراسة حديثة نشرتها مجلة Radiology المتخصصة، خضع النظام الجديد لاختبارات دقيقة لقياس أدائه مقارنة بالأدوات الطبية التقليدية، وقد كشفت النتائج أن BrainMets.ai يتمتع بدقة عالية بلغت 97.4% في الكشف عن الأورام بمختلف أحجامها، ما يؤكد فاعليته في تعزيز قدرات التشخيص الطبي.
وتُظهر الأرقام أن كفاءة النظام ترتفع كلما زاد حجم الورم، إذ وصلت دقة اكتشاف الأورام التي يتجاوز حجمها 12 ملم إلى 100%، فيما بلغت دقته في رصد الأورام المتوسطة التي يتراوح حجمها بين 6 و12 ملم نسبة 98%، وسجلت الأورام الصغيرة بين 3 و6 ملم نسبة دقة بلغت 97.7%.
أما التحدي الأكبر فكان في الأورام الأقل من 3 ملم، وهي الأشد صعوبة في الكشف حتى بالنسبة للخبراء، ومع ذلك، تمكن النظام من تحقيق دقة بنسبة 93%، ما يعكس قدرته على رصد ما يصعب رؤيته بالعين المجردة حتى لدى الأطباء المتخصصين.
ورغم هذه النتائج المبهرة، تؤكد شركة Robovision المطورة للنظام أن الذكاء الاصطناعي لا يُقصد به استبدال الأطباء، بل دعمه وتكملة دورهم في التحليل والتشخيص، فالتقنيات الحديثة لا تزال بحاجة إلى إشراف بشري لتفسير النتائج وتحقيق التوازن بين الكفاءة والتدقيق الطبي.
وتعزو الشركة هذه الدقة العالية إلى عملية تدريب دقيقة للنظام على بيانات عالية الجودة، إلى جانب إشراف تقني متقدم يقلل من احتمالات ظهور نتائج غير دقيقة أو ما يُعرف علميًا بـ"هلوسات" الذكاء الاصطناعي، التي قد تؤدي إلى تشخيص خاطئ أو تضليل الطبيب.
ويمثّل هذا الابتكار امتدادًا لسلسلة من النجاحات في مجال الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، إذ تشير تقارير طبية إلى تطوير أدوات مماثلة في تحليل صور الدماغ، واستخدام نماذج قادرة على فحص عينات الدم للتنبؤ بإمكانية عودة الإصابة بالسرطان لدى بعض المرضى.
وتدعم هذه الابتكارات فكرة أن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى بلوغ الكمال حتى يكون مفيدًا، بل إن مساهمته الجوهرية تكمن في تسريع خطوات التشخيص وتحديد الحالات الحرجة التي تتطلب تدخلًا سريعًا أو فحوصات إضافية، وهو ما يساعد في زيادة فرص النجاة وتقليص زمن الاستجابة.
وفي الوقت الذي ما تزال فيه بعض الأصوات تُشكك في فعالية الذكاء الاصطناعي الطبي، تُظهر مثل هذه النماذج أن التكامل بين الإنسان والآلة يُعد النموذج المثالي حاليًا، حيث يجمع بين سرعة المعالجة الرقمية وعمق الخبرة البشرية.
ويرى خبراء أن تطبيق هذا النموذج على نطاق أوسع في المستشفيات ومراكز التشخيص من شأنه أن يُقلل العبء على الكوادر الطبية، خصوصًا في أقسام الأشعة التي تعاني أحيانًا من نقص في عدد المتخصصين مقارنة بحجم الصور التي تحتاج إلى تحليل.
ومن المتوقع أن تُساهم هذه التقنية في دعم الأطباء في المناطق التي تفتقر إلى الأجهزة المتقدمة أو الكوادر المدربة، إذ يمكن استخدام النظام كأداة استشارية تقدم نتائج أولية يُعاد التحقق منها من قبل الأطباء المعتمدين في وقت لاحق.
وتُعد هذه الخطوة أيضًا مؤشرًا على قدرة الذكاء الاصطناعي في لعب دور فاعل في مختلف مراحل الرعاية الصحية، بدءًا من التشخيص المبكر ووصولًا إلى رسم مسارات العلاج وحتى متابعة تطور الحالة بعد انتهاء الخطة العلاجية.
ويفتح ذلك آفاقًا جديدة للبحث في استخدام الذكاء الاصطناعي في أنواع أخرى من السرطان أو الأمراض العصبية المعقدة، خصوصًا مع تزايد دقة النماذج وتنوع مصادر البيانات التي يتم تدريبها عليها.
ومع كل تطور جديد، يصبح واضحًا أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد فكرة طموحة، بل واقع يتجذّر في بنية النظام الطبي الحديث، ويعد بمستقبل تتشارك فيه الخوارزميات مع الأطباء في صنع قرارات مصيرية وحاسمة تنقذ الأرواح.