عند الثالثة فجراً، في لحظة بدا فيها كل شيء هادئاً على أطراف حيِّ العزيزية، كانت عشرات المركبات البلدية تتوزّع مثل خيوط العنكبوت حول العربات المتناثرة على الأرصفة، في دقائق قليلة تحوّل السكون إلى حركة محمومة، وانطلقت حملةٌ رقابية موسَّعة خلّفت وراءها أطناناً من الخضروات والفواكه المصادَرة وإحساساً واضحاً بأن المشهد الحضري يتغيّر بالفعل.
من داخل عربات النقل المبرَّدة اصطفت صناديق الطماطم والخيار والتفاح بانتظار رحلتها غير المتوقعة إلى مستودعات الأمانة، بلغ الوزن الإجمالي نحو 3.4 أطنان، وهو رقم يعادل حمولة شاحنتين كبيرتين ويكشف حجم السوق العشوائي الذي نما في المسافات الرمادية بين الشوارع الرئيسة والفرعية.
إقرأ ايضاً: الشيخي يفجرها.. "شرط وحيد" لمشاركة ثيو هيرنانديز مع الهلال في كأس العالم للأنديةمفاجأة مدوية .. الهلال يحسم صفقة حمدالله رسميًا ويكشف تفاصيل الإعارة المفاجئة
العاملون في الفرق الميدانية تَنقَّلوا بين البسطات المخالِفة بحذر يوازن الضرورة الصحية مع حساسية اجتماعية معلومة، إذ حاول بعض الباعة الاحتفاظ ببضاعتهم بينما فضّل آخرون الانسحاب بصمت، على الرغم من التوتر اللحظي، كان الهدف المعلن هو حماية سلامة الغذاء ومنع انتقال الأمراض المنقولة عبر المنتجات المكشوفة للغبار وأشعة الشمس.
في لحظة حاسمة من الحملة، ظهرت رئيسة بلدية العزيزية الفرعية، هبة البلوي، لتؤكد أمام كاميرات الأمانة أن هذه التحرُّكات ليست استعراضاً عابراً، قالت إن التعديات والممارسات التي تتجاهل أبسط معايير النظافة العامة صارت «خطاً أحمر»، وإن الإجراءات النظامية ستُطبَّق بلا استثناء على المخالفين.
ورغم أن البلوي تجنبت ذكر قيم الغرامات بشكل صريح، فإن لوائح وزارة الشؤون البلدية تُلوّح بعقوبات تصل إلى إغلاقٍ تام ومصادرة أدوات البيع، إضافة إلى غرامات مالية تتضاعف عند التكرار، الرسالة إلى الباعة الجائلين كانت واضحة: عودوا إلى الأطر النظامية أو استعدوا لخسارةٍ قد لا تُعوَّض.
تاريخياً، خاضت أمانة جدة حملات مشابهة، لكن الفارق هذه المرة يكمن في شمولية التنسيق مع قطاعات الشرطة والمرور وصحة البيئة، ما أتاح فرض طوق محكم في محيط الحي وقطع خطوط الإمداد السريعة التي كان يستخدمها الباعة للهروب من نقاط التفتيش، يبدو أن استراتيجية «الإغلاق المُحكم ثم التفريغ السريع» أثبتت فعاليتها في تقليص المواجهات المباشرة.
بعض السكان الذين اعتادوا شراء منتجاتهم بسعر أقل من تلك المعروضة في الأسواق النظامية أعربوا عن قلقهم من ارتفاع الأسعار بعد مصادرة البسطات.
إلا أن مختصين في الصحة العامة يشيرون إلى أن فارق السعر البسيط لا يعادل تكلفة علاج محتملة لأمراض ناشئة عن سوء التخزين ونقل المنتجات في درجات حرارة مرتفعة.
المشهد الصحّي كان حاضراً بقوة؛ فدرجات الحرارة الصيفية التي تتجاوز الأربعين مئوية تجعل الفواكه والخضروات عرضة لفساد متسارع، ما يعني نمو بكتيريا قد لا تُرى بالعين المجردة لكن تأثيرها يتجلى في تسمم غذائي خلال ساعات، لذلك تؤكد الأمانة أن دورها وقائي بقدر ما هو تنظيمي، وهدفها النهائي الحفاظ على المستهلك قبل الحفاظ على المظهر العام.
أداة البلاغات «بلدي» ومركز الاتصال 940 أصبحا خط الدفاع الأول للمجتمع، إذ تتيحان لأي مواطن أو مقيم توثيق المخالفات بالصورة والموقع، فتصل المعلومة إلى غرفة عمليات الأمانة في بضع ثوانٍ، هذا التحول الرقمي سدَّ فجوةً كانت تسمح للمخالفات بالاستمرار أياماً قبل أن يلاحظها مراقب ميداني.
من اللافت أن الأمانة تتبنّى خطاباً تشاركياً؛ فهي لا تُحمّل المسؤولية لجهاز الرقابة وحده، بل للمتسوّق أيضاً الذي يقرر من أين يشتري غذاءه، ولصاحب المتجر النظامي الذي عليه أن يظل ملتزماً بالتراخيص والتخزين السليم، وللباعة الجائلين أنفسهم الذين تُعرض عليهم فرصُ تقنينٍ عبر منافذ موسمية معتمَدة.
شراكات الأمانة مع وزارة التجارة والهيئة العامة للغذاء والدواء عززت قدرة الفرق على اختبار العينات سريعاً وتحرير التقارير في الموقع نفسه، ما يقلص زمن الإجراءات ويزيد شفافية النتائج، هذه السرعة في إصدار القرارات تعني أن البضائع غير الصالحة لا تجد طريقها إلى موائد الأسر.
تندرج الحملة ضمن مستهدفات «رؤية السعودية 2030» الرامية إلى تحسين جودة الحياة ورفع مستوى الخدمات البلدية، تتوازى هذه الجهود مع مشاريع تطوير الواجهات البحرية والأسواق المركزية، حيث تسعى جدة إلى بناء هوية حضرية تُضاهي دورها التاريخي بوصفها بوابة الحرمين.
ومع تعاقب الحملات، تأمل الأمانة أن يقلَّ عدد المخالفين تدريجياً بفعل الردع من جهة والتحفيز على التقنين من جهة أخرى، فالسوق المنظم يستطيع استيعاب تطلعات الباعة الصغار إذا التزموا الشروط الصحية وتحصّلوا على التراخيص اللازمة، ما، فتح أمامهم فرص تمويلٍ من صناديق محلية صغيرة تُعنى برواد الأعمال.
في نهاية المشهد، تترك الأمانة الباب مفتوحاً للتعاون المجتمعي، مؤكدة أن البلاغ الصغير قد يمنع ضرراً كبيراً، وأن تحسين المشهد الحضري يبدأ من وعي الفرد قبل قرار الجهة الرسمية، ومع بزوغ شمس اليوم التالي، بدت الأرصفة أكثر اتساعاً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في المحافظة على هذا الاتساع طويلاً.
ويبقى السؤال مطروحاً: هل ستنجح جدة في تحويل حملة فجرية إلى ثقافة مستدامة تحكم أسواقها؟ أم أنّ الباعة الجائلين سيجدون مسارب جديدة تعيد العشوائية إلى الواجهة؟ الأيام القادمة ستقدّم الإجابة، بينما يظل 3.4 أطنان من الخضروات والفواكه شاهداً على معركة متجددة بين النظام والفوضى.