في مسعى جديد يعكس التزام المملكة بحماية بيئتها وضمان سلامة مجتمعها، أطلق المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي المرحلة الأولى من برنامج وطني شامل يُعنى بإدارة وتصنيف المواد الكيميائية المستخدمة في المنشآت على مستوى البلاد، وهذا البرنامج الطموح يستهدف التعامل مع أكثر من 80 ألف مادة كيميائية موزعة على نحو 2242 منشأة، ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تقليل المخاطر البيئية والصحية الناتجة عن الاستخدام غير المنظم لهذه المواد التي أصبحت جزءاً من الحياة الصناعية والزراعية والتجارية اليومية.
ويأتي هذا التوجه وسط تزايد القلق من التأثيرات السلبية للمواد الكيميائية على عناصر البيئة المختلفة، مثل تلوث المياه الجوفية والسطحية، والإضرار بجودة الهواء والتربة، فضلاً عن التهديدات المباشرة لصحة الإنسان، سواء أولئك الذين يتعاملون مع هذه المواد بشكل مباشر كالعاملين في المصانع، أو من يتأثرون بها بشكل غير مباشر نتيجة التسرب أو سوء التخزين، ويتعاظم هذا القلق في ظل غياب آلية تصنيف واضحة أو سجل وطني موحد يضبط تداول هذه المواد على مستوى المملكة.
ومن خلال البرنامج الجديد، يعمل المركز على تنفيذ خطة من ست مراحل تبدأ بإجراء مسح شامل للوضع القائم، وتقييم كامل للمخزون الكيميائي المتوفر داخل المملكة، بهدف فهم نطاق التحديات الموجودة حالياً، وتشمل المراحل اللاحقة إنشاء منصة رقمية وطنية، تتضمن قاعدة بيانات مركزية دقيقة وشاملة للمواد الكيميائية المستخدمة، مصنفة بحسب مستوى الخطورة، ومرتبطة بتطبيقات تسهل المتابعة والإبلاغ والرقابة من قبل الجهات المختصة.
وفي هذا السياق، تم تنظيم ورشة عمل موسعة بحضور ممثلين عن جهات حكومية وخاصة، بهدف مناقشة الإطار التنظيمي الجديد الذي سيحكم إدارة المواد الكيميائية داخل المملكة، هذا الإطار، بحسب ما أوضحه الدكتور محمد الدوسري، مدير عام السلامة الكيميائية بالمركز، يعتمد على أفضل الممارسات الدولية ويستلهم تجارب رائدة في هذا المجال، ليشكّل منظومة متكاملة تضمن السلامة البيئية في جميع مراحل دورة حياة المادة الكيميائية، من لحظة إنتاجها أو استيرادها وحتى التخلص النهائي منها.
الورشة تناولت أيضاً آليات نقل وتخزين وتوزيع وتسويق هذه المواد، حيث تم التأكيد على ضرورة إخضاع كل خطوة لضوابط ومعايير علمية واضحة، لتقليل فرص التسرب أو التفاعل غير الآمن الذي قد يهدد الأرواح والموارد الطبيعية، كما تم تسليط الضوء على أهمية بناء قدرات وطنية فنية قادرة على إدارة هذا الملف المعقد، بدءاً من التفتيش الميداني، وصولاً إلى تحليل المخاطر وتقديم المشورة التقنية للمنشآت المعنية.
وضمن الخطة التنفيذية للبرنامج، سيتم إعداد نموذج تشغيلي يُعنى بتطوير الكفاءات الوطنية المختصة في مجال السلامة الكيميائية، مع توفير برامج تدريبية وتأهيلية مستمرة، تواكب متطلبات الاتفاقيات البيئية الدولية التي وقعتها المملكة، كما سيتم إلزام المنشآت بتطبيق اشتراطات الصحة والسلامة المهنية، وتنظيم عمليات التخزين والتداول، بما يتماشى مع أعلى معايير الأمان المعتمدة عالمياً.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة الوطنية ليست معزولة عن جهود المملكة الأوسع نحو تحقيق الاستدامة البيئية، بل تأتي ضمن استراتيجية متكاملة تسعى إلى ترسيخ مبادئ الحوكمة البيئية، والحد من استخدام الموارد الخطرة دون ضوابط، كما تضع المملكة في مصاف الدول المتقدمة في مجال إدارة المخاطر الكيميائية، مما يعزز سمعتها الدولية كمركز استثماري ملتزم بأعلى معايير البيئة والصحة العامة.
ويُنظر إلى هذا البرنامج باعتباره نقلة نوعية في منظومة الرقابة البيئية في المملكة، إذ يسهم في تقليل الهدر، ويمنع التراكم العشوائي للمواد الكيميائية في المواقع الصناعية، ويعزز من ثقة المجتمع في قدرة الجهات المختصة على حماية الإنسان والبيئة معاً، كما يفتح آفاقاً جديدة للتعاون مع القطاع الخاص، الذي سيضطر بدوره إلى رفع مستوى التزامه بالمعايير البيئية، ضمن منظومة تشاركية تحقق الأمن البيئي والاقتصادي على حد سواء.