في مشهد مهيب تمتزج فيه قسوة الطبيعة مع بسالة الإنسان، غطّت سحب الدخان الكثيفة سماء محافظة ميسان الهادئة جنوبي الطائف، معلنةً عن اندلاع حريق هائل في قلب أحد كنوزها الطبيعية، جبل "بثرة"، ألسنة اللهب التي بدأت تلتهم مساحات من الأشجار والأعشاب اليابسة، حولت السكينة التي تطبع المنطقة إلى حالة من الطوارئ والاستنفار، دافعةً برجال الدفاع المدني إلى خوض سباق محموم مع الزمن لاحتواء النيران ومنعها من التوسع في هذا الصرح الطبيعي الشامخ، الحادثة، التي بدأت في الساعات الأولى من مساء اليوم، لا تزال فصولها مستمرة، حيث تقف الفرق الميدانية في خط المواجهة الأول، تبذل جهودًا جبارة في معركة شرسة ضد نيران تغذيها طبيعة المنطقة الجغرافية الصعبة.
وفور تلقي البلاغ، تحركت آليات وفرق الدفاع المدني في منطقة ميسان بكامل جاهزيتها، حيث تم الدفع بالعديد من وحدات الإطفاء المتخصصة وفرق الإنقاذ المساندة إلى موقع الحادث، هذه الاستجابة السريعة تعكس مدى الاستعداد واليقظة التي تتمتع بها فرق الدفاع المدني للتعامل مع مثل هذه الحوادث الموسمية، إلا أن المهمة لم تكن سهلة على الإطلاق، فجبل بثرة، بطبيعته الصخرية وتضاريسه الوعرة، يشكل تحديًا لوجستيًا كبيرًا أمام وصول المعدات الثقيلة إلى بؤر الحريق المنتشرة على سفوحه ومنحدراته، هذا الوضع يفرض على الفرق الميدانية الاعتماد بشكل كبير على المعدات المحمولة والأساليب اليدوية، بالإضافة إلى التخطيط الدقيق لخطوط الإمداد المائي، مما يضاعف من حجم الجهد المبذول ويجعل من كل دقيقة تمر عاملاً حاسمًا في مسار عمليات الإخماد.
إقرأ ايضاً:ضحايا السرطان يعادلون قتلى الحرب: معاناة مزدوجة في اليمن المنكوب13 منتخبًا يتأهلون رسميًا لمونديال 2026 بقيادة البرازيل والأردن
وتزيد الرياح النشطة التي تشهدها المنطقة في هذا الوقت من العام من تعقيد الموقف، حيث تلعب دورًا خبيثًا في تغيير اتجاه النيران بشكل مفاجئ وسريع، مهددةً بنقل ألسنة اللهب إلى مناطق جديدة لم تكن ضمن دائرة الخطر الأولية، هذا العامل الجوي يجعل من مهمة السيطرة على الحريق أشبه بمطاردة خصم لا يمكن التنبؤ بحركته، ويستدعي من قادة العمليات الميدانية اتخاذ قرارات تكتيكية سريعة تعتمد على قراءة مستمرة لسرعة الرياح واتجاهها، بهدف إنشاء خطوط عزل فعّالة وشن هجمات مضادة على النار من مواقع استراتيجية تضمن محاصرتها وتقليص رقعة انتشارها تدريجيًا.
وبينما يتركز الجهد العملياتي على إخماد النيران، يسود شعور بالقلق والترقب بين سكان القرى والمناطق المجاورة لجبل بثرة، الذين يتابعون عن كثب تصاعد أعمدة الدخان ويأملون في نجاح جهود رجال الإطفاء، من جانبها، تعمل فرق الدفاع المدني على طمأنة الأهالي وتأمين محيط منطقة الحريق بالكامل، ومنع وصول أي أفراد غير معنيين إلى المواقع الخطرة، حفاظًا على سلامتهم، هذه الجهود المزدوجة، التي تجمع بين المكافحة الميدانية والتواصل المجتمعي، تعد ركيزة أساسية في إدارة الأزمات والكوارث الطبيعية حيث تضمن سير العمليات بفاعلية دون أي معوقات أو حوادث عرضية.
إن حريق جبل بثرة لا يمثل مجرد خسارة مادية في الغطاء النباتي، بل هو جرح عميق في قلب البيئة والتنوع الأحيائي الذي تزخر به منطقة ميسان، فهذه الجبال ليست مجرد تضاريس صخرية، بل هي موطن لكثير من أنواع النباتات المحلية، وبعضها قد يكون نادرًا، كما أنها تشكل ملاذًا آمنًا للعديد من أنواع الطيور والحيوانات البرية التي تعتمد على هذا الغطاء النباتي كمصدر للغذاء والمأوى، إن فقدان هذه الموائل الطبيعية بفعل النيران يهدد التوازن البيئي الدقيق في المنطقة، وقد يستغرق سنوات طويلة، إن لم يكن عقودًا، لتعود الطبيعة إلى سابق عهدها، مما يسلط الضوء على الأهمية القصوى لحماية هذه الثروات الطبيعية.
ويأتي هذا الحادث ليعيد إلى الأذهان المخاطر المتزايدة لحرائق الغابات والمناطق الطبيعية، خاصة خلال فصول الصيف التي تتسم بارتفاع درجات الحرارة والجفاف، هذه الظروف المناخية تجعل من البيئة الجافة وقودًا جاهزًا للاشتعال عند أي شرارة، سواء كانت طبيعية المصدر أو ناجمة عن إهمال بشري، وهو ما يدق ناقوس الخطر مجددًا حول ضرورة تكثيف حملات التوعية المجتمعية بأخطار الحرائق، وأهمية اتباع إرشادات السلامة عند التواجد في المتنزهات الطبيعية والمناطق البرية، مثل تجنب إشعال النيران في غير الأماكن المخصصة والتأكد من إطفائها بالكامل قبل مغادرة الموقع.
وفي هذا السياق، تؤكد المديرية العامة للدفاع المدني باستمرار على أهمية دور المواطن والمقيم كشريك أساسي في منظومة السلامة والوقاية، فالمسؤولية لا تقع فقط على عاتق الجهات المختصة في عمليات المكافحة، بل تبدأ من الوعي الفردي والجماعي بأساليب الوقاية، إن الإبلاغ الفوري عن أي حريق مهما كان صغيرًا، والامتناع عن الممارسات الخاطئة، يمثلان خط الدفاع الأول الذي يمكن أن يمنع وقوع كوارث بيئية كبيرة، ويحافظ على جمال وطبيعة المملكة التي تعد جزءًا لا يتجزأ من هويتها وتراثها.
وبينما تواصل فرق الإطفاء جهودها الدؤوبة في موقع الحادث بجبل بثرة، تبقى العيون شاخصة والقلوب داعية لهم بالنجاح في مهمتهم النبيلة، إن كل قطرة ماء تُرش على اللهب، وكل خطوة يخطوها رجال الدفاع المدني على تلك الأرض الوعرة، هي رسالة أمل وتضحية من أجل حماية الأرض والإنسان، وتستمر المتابعة الرسمية على أعلى المستويات لضمان توفير كافة أشكال الدعم اللازم للفرق الميدانية، حتى يتم الإعلان عن السيطرة الكاملة على الحريق وإخماده تمامًا، لتبدأ بعد ذلك مرحلة تقييم الأضرار والعمل على إعادة تأهيل هذا الجزء المتضرر من طبيعة الوطن الغالية.